العلا: انتحار خلود يرسم معاناة جهة بأكملها
لم تعد ترعبها الثعابين و سموم العقارب بل ظلّت تخيفها أغصان الأشجار التي تدلت منها ابنتها خلود ذات التسع سنوات واضحت تراودها الذكريات الحزينة و الأفكار القديمة حول انتحار فلذة كبدها أمام كوخها الصغير بمنطقة النقّاز التابعة لمعتمدية العلا من ولاية القيروان و بات يؤلمها حنين حضنها بعد تشييعها إلى الأبد منذ سنوات.
تتذكر بين الحين و الحين أنين طفلتها وحرقة مشاعرها وحرمانها من براءة طفولة نعمت بها صبايا في عمرها في الوقت الذي كانت تشعر فيه بحاجتها لتناول علبة "ياغورت" أو حذاء يحمي رجليها من صقيع البرد ذات خريف و ميدعة غير مرقعة ورغيف خبز يسدّ رمق جوعها.
ما تزال الأم حنان زنّوني تتذكر انتحار ابنتها خلود شنقا هروبا من الواقع المرير نتيجة حرمانها من ثياب يفرحها وبضع مليمات تمكّنها من شراء لمجة مثل زميلاتها أثناء أوقات الراحة خارج أسوار المدرسة التي تبعد عنها عشرات الكيلومترات لتخيّر نهج الموت بدلا من مواجهة واقع لا يطاق و مآسي لا تقدر على تحملها.
تحتل ولاية القيروان المرتبة الأولى على المستوى الوطني من حيث عدد حالات الانتحار ومحاولات الانتحار ب120 حالة خلال سنة 2016 و89 حالة خلال سنة 2015 حيث تتصدر معتمدية العلا قائمة المعتمديات مع تسجيل حالات في صفوف الأطفال على غرار خلود وآخرين في ظل غياب إحصائيات رسمية لباقي السنوات.
وتعد منطقة العلا من أفقر المعتمديات بتونس بنسبة 0.370 % في مؤشر التنمية حيث تحتل المرتبة 253 من جملة 263 معتمدية بالجمهورية بعد ما كانت تحتل المرتبة قبل الأخيرة خلال السنة الفارطة وسجلت أعلى نسبة أمية عند الإناث ما فوق 10 سنوات 51.71% وعند الذكور ب 34.5 %.
وتمتاز العلا بتضاريسها الوعرة و بمسالك فلاحية غير معبدة مع غياب وسائل النقل العمومي بالمناطق الريفية منها،فهذه العوامل و غيرها ساهمت بصفة كبيرة في ارتفاع نسبة الانقطاع المدرسي التي وصلت إلى 7.56 % خلال السنة الدراسية المنقضية و تنامي الهجرة والنزوح رغم ما تزخر به المنطقة من أراضي خصبة قادرة على توفير منتوجات فلاحية متنوعة و قد تراجع عدد السكان من 31773 ساكن خلال سنة 2004 و إلى 28991 سنة 2014 ما يمثل تراجع يقدر ب 8.8 % ، ويعاني متساكنو المناطق الريفية في هذه المعتمدية من غياب الماء الصالح للشرب نتيجة مديونية الجمعيات المائية التي فاقت 560 ألف دينار مما اجبر الشركة التونسية للكهرباء والغاز على قطع التيار الكهربائي لتطال المعاناة اكثر من 9 آلاف ساكن مايزالون تحت وطأة العطش، و على الرغم من توفر أشجار الزياتين المعروفة ب "الزيتون الروماني" الذي ظل شامخا منذ آلاف السنين وذو جودة عالية إلى جانب أشجار اللوز والكروم الهندي وكثرة مقاطع الرمال والحجارة الا ان العلا بقيت تتذيّل المراتب الاخيرة في التنمية.
و تواجه العلا وضعا كارثيا على كل المستويات جراء الفقر والعطش وتزايد نسب الامية والانحراف فهي لم تحض بمشاريع ذات جدوى ولم تركز بها فروعا للإدارات العمومية على غرار مركب الطفولة الذي انتهت أشغاله منذ أكثر من سنتين بهدف التصدي لتنامي ظاهرة الانتحار لا يزال مغلقا وكذلك مركز التدريب المهني الذي وعد رئيس الحكومة بانجازه لاحتضان المنقطعين عن الدراسة... كلّ ذلك ظل حبرا على ورق. أما فرع الإدارة المحلية للتجهيز فقد تم غلقه وتوجيه معداته وأعوانه إلى مستودع بإحدى المعتمديات المجاورة لها.
فهل ستعتني الحكومة الجديدة بهذه المعتمدية لإنقاذ أشقاء خلود من براثن الانتحار وتحقيق أحلام أفضل لوالدتها حنان وعودة والدها من الهجرة بعد أن انهكته "المرمة" وإحياء العلا لتبقى شامخة كشموخ جبل طرزة وصمود اشجار الزيتون الروماني.
*خليفة القاسمي